عن القضاء و القدر و الفرق بينهما .

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته  
فإني احترت قبل كتابة هذا المقال ، لعلمي أنه أمر جلل و من الموضوعات الشائكة في العقيدة ، و لأن الخطأ فيه وارد ، بل و عظيم ، لكن وجدت ان الحاجة إليه الآن أصبحت ملحة ، و قد بلغت قلوب حناجر و ظن الناس الظنون .
و ان الشيطان له علي العباد كيد و حمل في اوقات الصعاب ، و لابد لمواجهته ، بالتسليم لله اولا ، ثم يستعين علي هذا بفهم يقرب بعيدا و يوضح مستغربا .
ابدأ باسم الله ، و أثني بالحمد و الثناء عليه ، ثم الصلاة علي نبيه ﷺ .
فإن الايمان بالقدر كله خيره و شره لابد للمسلم منه و لا مناص عنه ، أن يرد القدر كله خيره و شره لله عز و جل و قدرته و علمه .
قال تعالى " إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ " سورة القمر.
فالله خالق كل شيء ، و كل شيء عداه مخلوق ، و كل مخلوق خُلق بقدر الله .
و لابد للمسلم ان يعلم ان كل حادثة مرد نشأتها سواء من لزوم العلم باحداثها و كيفيته و إمكانياته ، او القدرة علي إحداثها إنما هي من الله .
قال تعالى " وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ "  النحل

و قال تعالى " وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ "  الصافات .

فمجموع كل هذا المعتقد لابد للمسلم ان يعلمه و يسلم به لله ، بل هو من تمام الاسلام و كماله .

و هنا يبدأ الشيطان عمله في عقل المسلم ، و هنا لف الملحدون و داروا اذ يتصل بهذا الأمر ، سؤال طرق أبواب العقول كثيرا في اوقات الشدائد و غلواء البلاء ، و جوهره عن الشر و الخير .

و ما يتبع من هنا في كلامي ظاهره انه كلام عقلي مجرد ، لكنه استنباط و تأمل .
فإن عجز القارئ عن الفهم و القبول ، يكفيه ما كفى غيره من التسليم و الإيمان .

فان السؤال عن معنى القدر ؟!
القدر من التقدير ، و قد رده من رده الي القدرة .
لكن ظاهر قول الله تعالى " الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا " الفرقان . ظاهر المعنى ان اصله من التقدير ، و التقدير في اصطلاح البشر هو الحساب و الوزن  .
و إن الله عز و جل لا يقاس له ، لكن معذرتنا ان هذا مما اثبته من الافعال في حق نفسه جل و علا ، و أوحاه و أنزله إلينا بلغتنا ، فلا مناص من مقاربة الفهم باصطلاح البشر ، و إلا فان الفهم علي حقيقته بالكم او الكيف محال لبشر او غير بشر الوصول إليه ، فما ينسب له تعالى من الافعال ان شابهه شيء من اصطلاح البشر فإنما لاستحالة إدراكنا الحقيقة فكانت الصورة و المثل - و منها اللغة - أقرب ما يمكن لنا ان نقترب .
فان القدر الذي هو تقدير الله عز و جل و حسابه وزنته للموازين هو بالغ الكمال و التمام فوق ما يصل له الخيال و الشهود .
و اذا انتهينا من دفع توهم المماثلة و المشابهة ، نتجاوز فنقول ان الله قد قدر كل شيء ازلا ، فحسابه ووزنه عز وجل سابق علي كل شيء ، و من هذا كل حوادث الدنيا و افعال الفاعلين .
غير ان القدر غير القضاء .
فالقضاء قدر قد حكم الله به انه لابد يقع و يكون .
و هنا يتجلى الفارق .
فالقدر هو تقدير و حسبان سريان الأحداث علي أوجه عدة ، تتسع لكل خيارات البشر و مساراتهم .
غير أن الله عز و جل قد علم ما يقع من اختيارات المختارين و افعالهم من قبل ان يكونوا اصلا ، لكنه لم يحجر عليهم في مسارات الاختيار ، و انهم لم يعدوا و يخرجوا عن شيء من هذا المسارات التي قدرها .
فلا هو منعهم اجبارا و لا جاوزوه بمشيئتهم أو فاجاؤوه عز و جل باختيارهم .
و انظر الي قوله تعالى " قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ  " .. الآية "  الأعراف.
فإن ظاهر قوله تعالى يثبت ان الاختيارات المختلفة تؤدي إلي مسارات مختلفة .

و أما القضاء فهو قدر قد حكم الله أنه لابد يكون ، لايرده اختيار مختار و لا دعاء داع .

و ان شئت فاقرأ كل اية عن القضاء

و منها قوله تعالى  " بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون "(١١٧ ) البقرة
و منها قوله تعالى " وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا  " الاسراء

و كذا قوله تعالى " وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا " مريم  

فالقضاء حكم بقدر معين من الاقدار ، لابد يتحقق و لابد يكون .
و إن كان كل قضاء انما هو  قدر سبق ، فإن الله عز و جل لا يبدو له شيء و علمه تام أزلا .
غير انه ليس كل قدر قضاء .
قال رسول الله ﷺ : لا يزيدُ في العمرِ إلَّا البرُّ ولا يردُّ القدرَ إلَّا الدُّعاءُ ...
الراوي : ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح ابن ماجه | الصفحة أو الرقم : 73 | خلاصة حكم المحدث : حسن .
و قد ورد بلفظ لا يرد القضاء .

لكن المعنى ان القدر قد يرده الدعاء اذا أجيب ، فكلا الأمرين من قدر الله الذي سبق في تقديره ، ان شاء أنفذ اي منهما ، بل قدر ان الداعي يدعو في ساعته فيرد ما كان مقدرا . و النتيجة معلومة ازلا عند الله .
اما القضاء فمن حديث رسول الله ﷺ " إن الله زوى لي الأرض..... ..... ...... "  قوله ﷺ : " وإنَّ رَبِّي قالَ: يا مُحَمَّدُ، إنِّي إذا قَضَيْتُ قَضاءً فإنَّه لا يُرَدُّ، " صحيح مسلم .

و غاية كلامي ان يعلم القارئ ان كل اختيارات المختارين المكلفين لا تخرج عن قدر الله و تقديره ، فأي الطرق يختار البشر ، كله من تقدير الله الذي سبق ازلا ، و إنه وحده تعالى تفرد بمعرفة اي الاختيارات يسلك كل مختار علي اتساعها ، فلا يظن احد فاعل الشر قد خرج عن تقدير الله و حسبانه السابق ، بل هو من قدره .
و لا يظن فاعل الخير انه ذو منة علي ربه ، بل هو مسار يسره الله له .
و أن القضاء هو قدر معين من الاقدار حكم الله ان يكون  ،  فلابد كائن.
___________________________________
و اختم فأقول أنه لا يحزن احد علي ما يرى من علو بني إسرائيل ، فإنما هو قضاء قضاه الله لهم ، فالدعاء فيه لا يغيره و لا يرده ، فلا تحزن ، و الدعاء محفوظ عند الله عز و جل ، يؤجل او يعجل كما يشاء ، و إنهم ليبلغن ما قضاه الله لهم بتمامه ، فسلم لقضاء الله و لا تجزع ، فإنما نحن عبيده ، ما يقضي به نقول سمعنا و اطعنا حتى و ان كان قضاؤه ان يعلو عدونا ، حتى يبلغوا أجلهم ، و نمتحن نحن بالتسليم و الرضا ، و الثقة فيما بقي من موعود الله لهم و لنا .
و اقول لمن حيرته معضلة الشر ، أن الشر و الخير علي السواء من قدر الله و من قدرته التي أمد بها كل فاعل ، فلا حول و لا قوة لفاعل خير او شر إلا به ، لكن ما أصابنا من مصيبة فمن أنفسنا ، فخلف كل مصيبة مسار من القدر كان أوله اختيار ، والله يقضي للعبد بالقدر الذي يختاره .
قال تعالى " وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا " .
و من استشكلت عليهم ما يسمونه معضلة الشر من الملحدين إنما استشكلت لكفرانهم باليوم الآخر  ، حين و حيث تسوى المظالم و تستوفى الحقوق ، فظنوا الدنيا و الموت هو كل القصة فهالهم هذا ، و ما نحن كذلك نؤمن ، فما الدنيا و اللبث فيها إلا كيوم او بعض يوم ، و إلى الله ترجع الأمور .
و ساعة ترد المظالم و الحقوق يتبين للكافرين باليوم الآخر ما بدا دوما لأهل الإيمان ان الله هو الحق المطلق و منه كل خير و ان الشر انما كان اختيار عباده .


هذا و ما كان فيما كتبت من صواب فانما هو من الله و توفيقه ، و لست فيه بسابق ، و ما كان من خطأ و سوء فمني و من الشيطان .
فاللهم اغفر لنا و اعف عنا .