السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
1) نشأة و تطور علوم القرآن :
أ - عهد ما قبل التدوين: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يعرفون عن القرآن وعلومه ما عرفه العلماء من بعد، ولكن معرفتهم لم تدوّن، ولم تجمع في كتاب، لعدم حاجتهم إلى ذلك، فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرهم ينزل عليه الوحي فيرتّله على مسامعهم، ويكشف لهم عن معانيه وأسراره بوحي من ربّه، وكان الصحابة عربا خلّصا، يتّصفون بقوة الذاكرة وتذوّق البيان وتقدير الأساليب، فأدركوا من علوم القرآن ما لم ندركه نحن، وكانت الأمية متفشية بينهم ووسائل الكتابة بدائية وغير ميسّرة لديهم، ومع ذلك فقد نشطوا في نشر الإسلام وتعاليمه والقرآن وعلومه تلقينا ومشافهة. و كان إمام المدرسة المكية عبد الله بن عباس ترجمان القرآن و كان معه مولاه عكرمة , و كان إمام المدرسة المدنية أبي بن كعب و كان إمام مدرسة العراق عبد الله بن مسعود
ب- عهد التمهيد لكتابة علوم القرآن: إنّ ما تمّ في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه من جمع القرآن في مصحف إمام، ونسخ عدة نسخ منه لإرسالها إلى الأقطار الإسلامية كان الأساس لما يسمّى (علم رسم القرآن). وفي عهد عليّ رضي الله عنه وضع الأساس لما يسمّى (علم النحو) بعد أن أمر عليّ رضي الله عنه أبا الأسود الدؤلي أن يضع بعض القواعد، لحماية لغة القرآن من العجمة وتفشي اللحن بين الناس.
وفي العهد الأمويّ ساهم عدد من الصحابة والتابعين في وضع الأساس لما يسمّى (علم التفسير) و: (علم أسباب النزول) و: (علم الناسخ والمنسوخ) و (علم غريب القرآن).
ج- عهد التدوين: وفي هذا العهد ألّفت الكتب في أنواع علوم القرآن، واتّجهت الهمم أول الأمر إلى التفسير باعتباره أمّ العلوم القرآنية،
- من أوائل من كتب في التفسير شعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح. وتفاسيرهم جامعة لأقوال الصحابة والتابعين،
- ثم تلاهم الطبري المتوفى سنة (310 هـ)بتفسيره المشهور)
- و في علوم القرآن الأخرى كتب علي بن المديني- شيخ البخاري- المتوفى سنة (234 هـ) كتابا في (أسباب النزول)
- وأبو عبيد القاسم بن سلّام المتوفى سنة (224 هـ) كتب في (الناسخ والمنسوخ) وكلاهما من علماء القرن الثالث.
- وأبو بكر السجستاني المتوفى (330 هـ) كتب في (غريب القرآن) وهو من القرن الرابع.
- وعليّ بن سعيد الحوفي صنف في (إعراب القرآن) وهو من علماء القرن الخامس.
وفي هذا القرن الخامس ظهر اصطلاح (علوم القرآن) .
- وأول من كتب فيه هو علي بن سعيد الحوفي المتوفى سنة (430 هـ) واسم كتابه: (البرهان في علوم القرآن) ويقع في ثلاثين مجلدا، والموجود منه الآن في دار الكتب المصرية (15) مجلدا.
- وفي القرن السادس ألّف ابن الجوزي المتوفى سنة (597 هـ) كتابين هما: (فنون الأفنان في علوم القرآن) و: (المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن)
- وفي القرن السابع ألّف علم الدين السخاوي المتوفى سنة (641 هـ) كتابا سمّاه (جمال القراء).
- وألّف أبو شامة المتوفى سنة (665 هـ) كتابا سمّاه (المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقرآن العزيز).
- وفي القرن الثامن كتب بدر الدين الزركشي المتوفى سنة (794 هـ) كتابا وافيا سماه (البرهان في علوم القرآن).
- وألّف تقي الدين أحمد بن تيمية الحرّاني المتوفى سنة (728 هـ) رسالة في أصول التفسير، وهي مشتملة على بعض موضوعات علوم القرآن.
- وفي القرن التاسع ألّف محمد بن سليمان الكافيجي المتوفى سنة (873 هـ) كتابا في علوم القرآن،
- وألّف جلال الدين البلقيني المتوفى سنة (824 هـ) كتابه (مواقع العلوم من مواقع النجوم).
- وفي القرن العاشر ألّف جلال الدين السيوطي المتوفى سنة (911 هـ) كتابه المشهور (الإتقان في علوم القرآن) وهو من أجمع الكتب في موضوعه، لأنه استفاد من مؤلفات السابقين وزاد عليها.
وفي عصر النهضة الحديثة أثرت المكتبة العربية وازدانت بمؤلفات عديدة في الموضوعات القرآنية وفي علوم القرآن بالذات نذكر منها :
- (التبيان في علوم القرآن) للشيخ طاهر الجزائري.
- (منهج الفرقان في علوم القرآن) للشيخ محمد علي سلامة.
- (مناهل العرفان في علوم القرآن) للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني.
- (مباحث في علوم القرآن) للدكتور صبحي الصالح.
- (من روائع القرآن) للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
- (مباحث في علوم القرآن) للأستاذ مناع القطان.
2) تمهيد
أ) تعريف علوم القرآن:
- تعريف كل لفظة مستقلة:
علوم : لغة هي جمع 'عِلْمٍ' (مصدر عَلِمَ , يعلَمُ , عِلماً) و له معانٍ منها : المعرفة , الفهم , اليقين.
اصطلاحا هي جملة من المسائل المضبوطة بجهة واحدة.
القرآن : لغة مصدر قَرَأَ , يَقْرَأُ , قراءة و قُرْآناً فهو مرادف القراءة و التلاوة و قيل هو مرادف الجَمْعِ و الضَّمِّ
اصطلاحا هو كلام الله المعجز المنزل على محمد صلى الله عليه و سلم المكتوب في المصاحف المنقول عنه بالتواتر المتعبد بتلاوته.
- كلام الله : يخرج بهذا القيد كلام غير الله من بشر و جن و ملائكة.
- المعجز : أعجز العرب بما تضمّنه من فصاحة وبلاغة، وأنباء الغيب، وأخبار الأمم السابقة، وما حواه من إعجاز علمي وتشريع محكم دقيق صالح لكل زمان ومكان.
- المنزل : يخرج بهذا القيد كلام الله الذي استأثر به .
- على محمد : يخرج بهذا القيد ما أنزل على الأنبياء قبله كالتوراة و الإنجيل و غيرها.
- المكتوب في المصاحف المنقول عنه بالتواتر : يخرج بهذا القيد ما سواه من منسوخ التلاوة و القراءات غير المتواترة.
- المتعبد بتلاوته : يخرج بهذا القيد الأحاديث القدسية.
- تعريف المركب الإضافي "علوم القرآن":
هي مباحث تتعلق بالقرآن الكريم وتخدمه , منها علم التفسير، وأسباب النزول، وعلم إعجاز القرآن، وعلم القراءات، وعلم الرسم العثماني، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم إعراب القرآن، و غيرها
ب) أسماء القرآن الكريم و أوصافه:
الأسماء : يرى البعض بأن القرآن له اسم واحد هو (القرآن) و باقي الأسماء هي أوصاف .
بينما يرى البعض الآخر بأن له مجموعة من الأسماء والأوصاف
- القرآن : (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)
- الكتاب : (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم)
- الفرقان : (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا)
- الذكر : (إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون)
الأوصاف : ذكرت مجموعة من الأوصاف في القرآن الكريم نذكر منها :
- موعظة – شفاء – هدى - رحمة : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين)
- البرهان – النور : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا)
- بشير – نذير : (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ, بَشِيرًا وَنَذِيرًا)
ج) طبيعة القرآن و خصائصه:
طبيعته : كما أن الكون حقيقة ذات كينونة مستمرة منذ بدايته و يدل على عظمة خالقه. بحيث أن كل مكون من مكوناته كان و لا يزال و سيظل يؤدي عمله حتى نهاية العالم و لا يمكن المطالبة بتغييره كالشمس أدت في الماضي دورها و لا زالت و ستبقى حتى النهاية و من يطالب بتغييرها فإنه محل للسخرية فإن القرآن أيضا حقيقة ذات كينونة مستمرة منذ تنزيله إلى رفعه بعد أن يأذن الله بذلك كان يؤدي عمله و سيظل و ينطبق عليه ما ذكرناه عن الشمس لا يمكن تغييره.
خصائصه : القرآن له خصائص متعددة نذكر منها :
- الربانية والإلهية (فهو محفوظ من التحريف والضياع )
- شامل لكل مناحي الحياة.
- صالح لكل زمان ومكان.
- حاكم على كل تصرفات الإنسان.
- خاتم الكتب السماوية والمهيمن عليها.
- أنه معجز.
- يتعبد بتلاوته.
د) الفرق بين القرآن الكريم و الحديث القدسي و الحديث النبوي:
لقد نطق الرسول صلى الله عليه و سلم بالقرآن الكريم كما نطق بالحديث القدسي و الحديث النبوي لكن هناك فروق بينها نذكر منها ما يلي :
القرآن الكريم : ينسب إلى الله عز و جل - وحي منزل لفظا و معنى – وقع به التحدي و الإعجاز – قطعي الثبوت – منقول كله بالتواتر – متعبد بتلاوته و هو الذي يتلى في الصلاة -
الحديث القدسي : يروى عن الله عز و جل - وحي منزل معنى دون لفظ (اللفظ من عند النبي صلى الله عليه و سلم) – لم يقع به التحدي و لا الإعجاز – منه ما هو قطعي الثبوت و منه ما هو ظني الثبوت- منه المتواتر و منه الآحاد – غير متعبد بتلاوته و لا تجزئ قراءته في الصلاة -
الحديث النبوي : يشبه القدسي غير أن هذا الأخير يسبَق بـ(قال الله سبحانه و تعالى) أو (فيما يرويه عن ربه) و الأول يضاف إلى النبي – القدسي يكون قوليا فقط أما النبوي فيمكن أن يكون قوليا أو تقريريا أو صفة خلقية أو خلقية.
3) الوحي القرآني :
أ) الوحي لغة : مصدر مشتق من (وَحَى , يَحِي , وَحْيٌا) إذا حدثه بأمرٍ و أخْفاه عن غيره. و له معان كثيرة وردت في القرآن منها :
الإلهام الفطري (و أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) – الإلهام الغريزي (وَأَوْحَى رَبُّكَ إلى النحل) – الإشارة الخفية السريعة (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ)– الوسوسة.( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ)
ب) الوحي اصطلاحا : هو إعلام الله أنبياءه بما يريد أن يبلغوه عنه و يكون بواسطة أو بغير واسطة.
ج) أنواع الوحي : و كلها تجتمع في الآية التالية : (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ
- الوحي : أن يلقي الله تعالى لنبيه ما يريد مباشرة بطريقٍ خفي و سريع دون واسطة و يكون مثل صلصلة الجرس و معظم القرآن منه.
- من وراء حجاب : أن يكلم الله النبي من وراء حجاب تكليما , كما كلم الله موسى عليه السلام.
- بإرسال رسول : أن يوحي الله لنبيه ما يريد عن طريق جبريل عليه السلام .
و قد قسم العلماء كيفيات الوحي إلى سبعة أو ثمانية على اختلاف بينهم:
+ الرؤيا الصادقة : تكون بالإلقاء مباشرة من الله أو بواسطة الملك.
+ النفث في الروع : تكون بنفث الملك في روع و قلب النبي.
+ مخاطبة الملك له في صورة رجل : فيكلمه و بحاوره , و هذه الصورة لم يُوحَ بها القرآن (حتى لا يقال يعلمه بشر)
+ مخاطبة الملك له في صورته الملائكية من غير أن يظهر له : و يكون مثل صلصلة الجرس.
+ مخاطبة الملك له في صورته الملائكية و يظهر له : حدث مرة في الأرض و مرة في السماء (معجزة الإسراء و المعراج)
+ كلام الله له من وراء حجاب كما حصل ليلة الإسراء و المعراج (قول فئة من العلماء)
+ كلام الله له بدون وساطة رسول و لا وراء حجاب : كما حصل ليلة الإسراء و المعراج (قول فئة أخرى من العلماء)
د) الأدلة على صدق الوحي القرآني :
- القرآن معجز: + الإعجاز الأدبي : بلاغته و بيانه و أسلوبه أعجزوا قريشا أهل اللغة و جهابذتها و قد تحداهم الله بالمجيء بمثله بل بعشر
سور بل بسورة فلم يستطيعوا.
+ الإعجاز التشريعي : أحكامه التشريعية دقيقة و لا تناقض فيها و صالحة لجميع المجتمعات و العصور .
+ الإعجاز الغيبي : فالقرآن يخبر بالماضي و الحاضر و المستقبل و بما لا يمكن إدراكه بالعقل و بما في نفوس المنافقين و
غيرهم
+ الإعجاز العلمي : لقد تم اكتشاف مجموعة من الحقائق العلمية ابتداء القرن العشرين أخبر عنها القرآن منذ 14 قرنا.
- القرآن منقول بالتواتر لفظا و معنى و هذا دليل على أنه لم يقع فيه تحريف و لا تغيير فقد نقل إلينا كما نزل على الصادق المصدوق.
- لقد بُشِّر بمجيء النبي محمد صلى الله عليه و سلم في كتب الأنبياء قبله و هذا دليل على صدقه و تلقيه عن ربه.
- استقامة القرآن مع فطرة الناس و مسايرته لمنطق العقول.
هـ) نظرة المستشرقين إلى الوحي :
- الاستشراق : مأخوذ من الشرق موطن نزول الديانات الثلاث اليهودية و النصرانية و الإسلام . و معناه البحث عن معرفة الإسلام و كل ما يتعلق به , و أول ما قاموا به ترجمة القرآن الكريم , من أجل إيجاد التناقضات –حسب زعمهم- و إثارة الشبهات لنقضه .
- المستشرقون قسمان:
+ قسم اتخذ العلمَ منهجا له وقائده، وتحلى بالموضوعية والإنصاف، وهذا النوع قليل جدا، والغالب على هذا النوع أن يسلم في آخر أمره، ويقول بمعتقدات المسلمين، ويعترف بأن القرآن كلام الله، ويدافع عن ربانيبته، ويربط وحي الله إلى محمد بوحي الله إلى غيره من الرسل كموسى وعيسى وغيرهما من الانبياء. منهم:
- (ليو بولد فايس) واسمه بعد الإسلام: (محمد أسد) نمساوي الأصل، وقد كان قبل إسلامه على الديانة اليهودية، له مؤلفات عدة، منها: "الطريق إلى مكة" و "الإسلام في مفترق الطرق". دفن بمدينة طنجة المغربية.
- (ايتيان ديني) واسمه بعد الإسلام: (ناصر الدين ديني) جزائري الأصل.
- (روجيه غارودي) واسمه بعد الإسلام: (رجاء غارودي) فرنسي الأصل. كان مسيحيا ثم ماركسيا ثم اعتنق الإسلام. من مؤلفاته: " الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية".
+ و قسم كان أغلبه مرتبطا بوزارة المستعمرات، وكان هدفه سياسيا واجتماعيا وتجاريا لا علميا كما يزعمون. وأسمى أهدافه تشويه الدين والقرآن على الخصوص وإثارة الشبهات حوله وتحريفه. فمنهم من اتهم النبي بأن ما يحدث له ناتج عن (الصرع) و منهم من قال بأنه ناتج عن (الخيال الخلاق) أو (اللاوعي الجماعي) كـ'مونتجمري وات' و منهم من قال بأنه ناتج عن (عوامل داخلية و خارجية ) كـ'جولد زهير' , و خلاصة القول أن ما ذهب به هؤلاء ضاحد لأن ما بلّغه النبي هو محض وحي الله إليه و هو خارج عن التحليلات التي وضعوها.
4) تنزلات القرآن و أسباب النزول:
أ – تنزلات القرآن: انقسم العلماء في عدد تنزلات القرآن إلى فريقين : فريق يقول بأنه تنزل مرة واحدة تنزلا مباشرا على قلب النبي بواسطة جبريل , و فريق قال بتعدد تنزلاته و هو الراجح. و كان عدد تنزلاته هو ثلاثة:
- التنزل الأول : أُنْزِل جملة واحدة إلى اللوح المحفوظ بطريقة و وقت لا يعلمهما إلا الله . قال تعالى
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ). و كل ما يحدث في الدنيا مسطور في اللوح المحفوظ , قال تعالى
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ).
- التنزل الثاني : أُنْزِل جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا و قد أخرج الحاكم بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: فُصِل القرآن من الذكر فَوُضِع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم. (هذا الحديث يُحتج به لأن له حكم المرفوع فهو جاء عن صحابي (ابن عباس) و معلوم أنه لا يأخذ من الإسرائيليات فلا يمكنه معرفة الأمر الغيبي إلا من خلال النبي).
- التنزل الثالث : هو نزول جبريل - عليه السلام - بالقرآن من السماء الدنيا على قلب سيدنا محمد - عليه الصلاة والسلام – منجما في ثلاث وعشرين سنة. ودليله قول الله تعالى في سورة الشعراء مخاطبا لرسوله عليه الصلاة والسلام: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ).
ب – أسباب النزول : إن من القرآن ما نزل غير مرتبط بسبب خاص و إنما نزل لهداية الخلق و هو الكثير, و منه ما نزل مرتبطا بسبب معين كأن يكون جوابا عن سؤال أو بيانا لحادثة أو حكما لواقعة ..وهو المعني بأسباب النزول. و قد اعتنى العلماء بالبحث في أسباب النزول: منهم: علي بن المديني و كذلك الواحدي ابن حجر العسقلاني (أسباب النزول) , الجُعبري اختصر كتاب الواحدي بحذف أسانيده ولم يزد عليه شيئًا , السيوطي (لُباب المنقول في أسباب النزول).
- معنى سبب النزول : ما نزلت الآية أو الآيات مبينة لحكمه أيام وقوعه. و يخرج ما ذكر الواحدي أن سورة الفيل سبب نزولها قدوم أبرهة لهدم الكعبة و إنما هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية.
- فوائد معرفة أسباب النزول:
+ الاستعانة على فهم الآية ودفع الإشكال عنها. روي عن مروان بن الحكم في معنى قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}. أنه قال: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذّبا لنعذّبنّ أجمعون؟ حتى بين له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه.
+ معرفة وجه الحكمة التي ينطوي عليها تشريع الحكم، مما يكون أدعى لتفهمه وتقبله , مما يكون أدعى لتفهمه وتقبله، فمن قرأ أسباب نزول آيات تحريم الخمر متدرجة واحدة بعد الأخرى، أدرك ضرورة تحريم الخمر، وبعثه موقف الصحابة عند نزول تحريمها الباتّ لأن يقتدي بهم ويأتسي بعملهم فينزجر عما قد يكون عليه من فعل محرّم.
+ عصمة المسلم والمفسر عن الوقوع في الخطإ والزلل, و مثال ذلك قوله تعالى: {وَللهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} حيث المتبادر من مدلول ألفاظ الآية ومن مظاهر سياقها أن المصلي له أن يصلي إلى أية جهة كانت في السفر والحضر فلله المشارق والمغارب فأينما يُولي المصلي وجهه فقد توجه إلى الله تعالى وهذا خلاف الإجماع، وهو يتعارض مع قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ﴾، وبالنظر في أسباب النزول تجد أنها نزلت في الصلاة المستحبة يستطيع الإنسان أن يؤديها على راحلته أينما اتجهت الراحلة دون اشتراط الاتجاه نحو القبلة
+ دفع توهم الحصر عن النص, و مثال ذلك قوله تعالى{ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}. فالظاهر من الآية أن المحرمات محصورة في الأربعة المذكورة. لكن قَالَ الشَّافِعِيُّ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا حَرَّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَأَحَلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَكَانُوا عَلَى المضادة والمحاداة جَاءَتِ الْآيَةُ مُنَاقِضَةً لِغَرَضِهِمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا حَلَالَ إِلَا مَا حَرَّمْتُمُوهُ وَلَا حَرَامَ إِلَا مَا أحللتموه نازلا نزلة مَنْ يَقُولُ: لَا تَأْكُلِ الْيَوْمَ حَلَاوَةً فَتَقُولُ: لَا آكُلُ الْيَوْمَ إِلَا الْحَلَاوَةَ وَالْغَرَضُ الْمُضَادَّةُ لَا النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا حَرَامَ إِلَا مَا أَحْلَلْتُمُوهُ مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ولحم الخنزير وما أهل لغير الِلَّهِ بِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ حِلَّ مَا وَرَاءَهُ إِذِ الْقَصْدُ إِثْبَاتُ التَّحْرِيمِ لَا إِثْبَاتُ الْحِلِّ.
منقول .